شهدت الأعوام القليلة الماضية موجة من الأفلام ذات الطبيعة الخاصة، التي يصنعها مخرجون ينتمون إلى صناعة السينما الهوليوودية الضخمة، لكنهم يقررون دخول مساحات شخصية بتقديم أفلام سيرة ذاتية مستلهمة من طفولتهم، فشاهدنا المكسيكي الشهير ألفونسو كوران يعود إلى طفولته في عاصمة بلاده ليرويها في فيلمه البديع "روما Roma" عام 2018، ثم يأتي الممثل والمخرج كينيث براناه ليسترجع ذكريات نشأته وسط اضطراب عاصمة أيرلندا الشمالية في فيلمه الذي حمل اسم المدينة "بلفاست Belfast" العام الماضي.
اسم جديد ينضم إلى نفس الموجة هو الأمريكي جيمس جراي، والذي يترك دراما الفضاء ضخمة الإنتاج التي قدمها في فيلمه السابق "آد أسترا Ad Astra"، ليُقدم حكاية إنسانية مستوحاة من طفولته بعنوان "زمن الفناء Armageddon Time"، احتفى بها مهرجان كان السينمائي واختارها للتنافس في المسابقة الدولية، أكبر منافسة سنوية في عالم الأفلام.
عالم صاخب وتحدي الأقلية
المكان حي كوينز بمدينة نيويورك، الزمان مطلع ثمانينات القرن العشرين، وقت صعود نجم رونالد ريجان ومعه النزعات اليمينية في المجتمع الأمريكي، وريجان هو صاحب مصطلح "زمن الفناء" خلال حملته الانتخابية التي يبدو أنها من الذكريات المؤسسة في حياة المخرج.
البطل طفل يتفتح وعيه على الحياة ليدرك حقائق تتعلق بنفسه وأسرته والعالم الذي يعيش فيه. الصبي بول هو النسخة الدرامية من جيمس جراي نفسه، ابن العائلة اليهودية التي هاجرت إلى العالم الجديد قبل الحرب العالمية الثانية فنجت من ويلات النازي وإن تابعتها عن بُعد، والتي تمكن أفرادها من تحقيق بعض النجاح المادي والاجتماعي في وطنهم الجديد، لكنه نجاح مشروط بما تسميه الجدة "إيجاد مقعد ملائم على الطاولة"، أن يدرك اليهودي اختلافه ويندمج في المجتمع الأمريكي على طريقته متفاديًا ألغام العنصرية.
نرشح لك: "لايسيء للإسلام" .. ماذا قالت الصحافة العالمية عن فيلم "صبي من الجنة" بعد عرضه في كان؟
جدير بالذكر هنا أن اسم عائلة المخرج الأصلي كان جرايفسكي، لكن جده قرر تغييره إلى "جراي" كي يتفادى وقع الاسم اليهودي على الأسماع، وهو الموقف الذي يتكرر بحذافيره عندما يسأل شخص متعجرف في المدرسة الصبي بول عن أصل اسم عائلته، قبل أن ندرك أن السائل هو فريد ترامب، امبراطور المال ووالد الرئيس ترامب. العائلة الثرية التي تظهر في الفيلم عدة مرات تبدو جميعها مأخوذة من ذكريات المخرج الحقيقية.
طبيعة العالم تجعل نجاح الأطفال الدراسي مسألة حياة أو موت، لذلك فالتحدي الأكبر لعائلة بول، والممثلة في والدته التي تلعبها النجمة آن هاثاواي، ووالده الذي يجسده ببراعة جريمي سترونج، هو تمكن ابنيهما من الحصول على تعليم جيد يكفل لهما مستقبل ناجح، حتى لو أدّى هذا إلى بعض القسوة والقرارات الراديكالية. مشاهد اجتماع العائلة مع الأجداد والخالات ومناقشة الماضي والمستقبل تقدم هنا عرضًا ذكيًا لكيفية عمل ثقافة الأقليات في كل مكان بغض النظر عن هوية الأقلية، فالتميز هنا فعل نجاة قبل كل شيء.
مشاعر متراكبة ونضج في الطرح
وسط معركة الوجود سابقة الذكر يصعب أن يجد صبي مثل بول يحلم بأن يكون رسامًا الدعم الكافي لأحلامه، سواء من عائلته الطامحة للأمان الاجتماعي، أو من مدرسته العامة التي تعاني من تدهور في المستوى ومشكلات متراكبة، أو حتى عندما ينتقل إلى مدرسة نخبة باهظة المصاريف، فيجد أن عرّاب المدرسة ومثلها الأعلى هو فريد ترامب، بكل ما يمثله النموذج من تصورات حول النجاح والثراء وقيمة أشياء مثل الفن والموهبة.
في المسافة بين الأحلام والواقع يكمن أفضل ما في الفيلم، وهو تعبيره عن المكوّن الذي يكاد يشكل شخصية أغلب الرجال في كل مكان بالعالم: أزمة التوقعات المتبادلة مع الآباء. ليس فقط والد بول من يريده أن ينجح ويتفوق، ويندفع في فرض رغبته فيصير وحشًا مختلًا عندما يشعر بإمكانية ضياع هذا الحلم الذي لا يملك الصبي أدوات تحقيقه، لكن بول هو الآخر لديه توقعاته المفرطة حول أهله، فيقول لصديقه مثلًا أن أسرته "فاحشة الثراء" بينما نكتشف أنهم مجرد أسرة عادية لديها بعض المدخرات.
من علامات النضج، الإنساني والفني، هي تلك المصارحة التي يقدم بها جيمس جراي الأمور كما يراها حاليًا وليس كما عاشها آنذاك. فرغم من أن الحكاية تروى من عيني البطل الصغير، إلا أن النص كُتب بتفهم للصورة الأكبر، صورة ترى عيوب الأب والأم التي يعد بعضها بمقاييس يومنا هذا جرائم يمكن أن تنزع حضانة الأبناء منهم، لكنها تضع تلك العيوب في سياقها وتتفهم كونها ناتجة عن حب ممزوج بخوف دائم من فقدان المكانة (راجع كتاب آلان دو بوتون)، أو حتى فقدان فرصة بلوغها.
هروب واكتشاف
بول الفنان الحالم الذي لا يجد من يتفهم موهبته، بل والذي تجبره أسرته على الانتقال إلى مدرسة النخبة التي يزداد شعوره بالاغتراب داخلها؛ فالانتقال من مدرسة ليس لديها زيّ موحد ويمكن فيها للأطفال التوقيع مكان أولياء أمورهم دون أزمة إلى مدرسة يُعد طلابها كي يكونوا قادة العالم الجدد أمر ليس بالهيّن. الوضع الذي يدفع بول لوضع خطة للهروب مع صديقه جوني، الصبي الأسود الذي يعيش أزمة مرحلة انتقالية خاصها المجتمع النيويوركي من العنصرية المعلنة إلى العنصرية المبطنة.
خطة بول تبدو طفولية ساذجة يمكن توقع فشلها قبل أن تبدأ، لكنها أيضًا خطيرة من الممكن أن تودي بمستقبل الصبيين، أو للدقة يمكن أن تقضي على مستقبل أحدهما، وهو بالطبع الطفل الأسود الفقير الذي يكتشف بول من خلاله ميزان العدالة المختل، فيعرف أن ما سمعه طيلة حياته عن معاناة أسرته اليهودية قد يكون صحيحًا، لكنهم في النهاية امتلكوا "مقعدًا على الطاولة"، بينما هناك فئات أخرى لا يُسمح لها أن تحلم بهذا المقعد!
يبدو الفصل الأخير من الحكاية أشبه باعترافات جان جاك روسو عن طفولته التي ارتكب فيها خطايا أصبح من خلالها إنسانًا أفضل، مع فارق طفيف هو أن بول هنا حاول بالفعل أن يبرئ ساحة صديقه فلم يستطع. هل هذا ما حدث فعلًا أم أن المخرج لم يمتلك نفس شجاعة روسو في المكاشفة؟ لا يشكل ذلك فارقًا كبيرًا في ظل الثقل النفسي والتحليل الاجتماعي الذي تضعنا نهاية الفيلم أمامه.
تبقى الإشارة إلى نجاح جيمس جراي الواضح في اختيارات عمله الفنية، سواء من إحكام رسم عالم كوينز الثمانينيات، بما فيها من متناقضات وأزمات مجتمعية تنتظر الاشتعال، أو في اختيار فريق المثلين الرائع وعلى رأسه الطفلان بانكس ريبيتا وجايلين ويب، وبالطبع النجم الأسطوري أنطوني هوبكنز الذي قد يكون أداءه لشخصية الجد في حدود المتوقع، لكنه يظل من الفنانين القلائل الذين يعطي مجرد حضورهم على الشاشة ثقلًا لا يمكن مقاومته.
اقرأ أيضا:
لماذا تغيب ابن سمير صبري عن الجنازة؟ زوج شقيقة الراحل يكشف السبب
ابن محمود الليثي يتعرض لوعكة صحية: عايش على المحاليل بقاله 24 ساعة
محمود المهدي يعلن زواجه من منة عرفة: الفرح كان صغير
أول تعليق لإلهام شاهين على أزمة جنازة سمير صبري : توافه بيكبروا المواضيع
لا يفوتك: حلقة خاصة لتحليل أغنية أنغام "لوحة باهتة" في "تحليل النغمات مع عمك البات"
حمل آبلكيشن FilFan ... و(عيش وسط النجوم)
جوجل بلاي| https://bit.ly/36husBt
آب ستور|https://apple.co/3sZI7oJ
هواوي آب جاليري| https://bit.ly/3LRWFz5