فعل "الحكي" من الأفعال المحببة والمتأصلة بشكل قوي في الثقافة المصرية، منذ الطفولة ننشأ على حكايات قبل النوم أو "حواديت الأطفال"، قبل أن نصل إلى جلسات النميمة بين الأصدقاء والتي تعتمد دائمًا على الكثير من الحكي.
اختارت المخرجة ماريان خوري لفيلمها الرابع عنوان "احكيلي"، هذا الذي بدأت رحلة عرضه منذ أيام قليلة في مهرجان أمستردام الدولي للأفلام التسجيلية IDFA، قبل أن يُعرض في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته 41 ويحصد جائزة يوسف شريف رزق الله بتصويت الجمهور. دون مواربة تَعِد المخرجة الجمهور بأن الفيلم يعتمد على الحكي، فهل نجحت ماريان خوري في سرد حكايتها؟
كيف تحكي؟
تعتمد الكثير من الأعمال التسجيلية على فكرة الحكي بطريقة مباشرة، ما يُطلق عليه Talking heads أو وجود شخص يتحدث حول موضوع الفيلم وهو ثابت في لقطة ثابتة. كما هي العادة في السينما، فإن الأساليب السينمائية لا تفنى بل تتطور وتُطوّع لخدمة مضمون الفيلم.
"احكيلي" يقوم بشكل أساسي على الحوار مع الكثير من الشخصيات، أهمها بالطبع ماريان خوري نفسها وابنتها سارة، وهما الأهم لسبب سنأتي لذكره لاحقًا، لكننا نجد أن المخرجة تتحرك بحرية تامة بين الحوارات المختلفة التي سجلتها، فلا يوجد نمط أو شكل ثابت للتصوير، حتى طبيعة المادة نفسها، بعض المشاهد يظهر بوضوح أنها مصورة من أجل الفيلم مثل الحوار الممتد بين ماريان وابنتها، وبعضها الآخر هو مجرد فيديو عائلي مصور في أحد الأعياد، مع ما في هذا النوع من الفيديوهات من حرية تامة في حركة الكاميرا ومتابعة الشخصيات المختلفة، في مقابل الالتزام بشخصية واحدة في النوع الأول، بالإضافة لمشاهد من بعض أفلام يوسف شاهين.
هذا التحرر الواضح من وجود أسلوب ثابت للتصوير، يصبح بعد قليل هو أسلوب الفيلم، ويتواصل المشاهد معه تلقائيًا، ليتحول إلى جزء من متعة المشاهدة عندما نرى كل هذه المشاهد مرتبطة معًا دون وجود تنافر، خاصة عندما نجد ماريان خوري تستخدم هذا الاختلاف في حجم وأبعاد اللقطات لتعطي معنى ما، فالطريقة التي تصور بها ابنتها في بداية الفيلم، في لقطة طولية أشبه بلقطات الهاتف المحمول، نشاهد فيها سارة في لقطة متوسطة الطول، تمنحنا رؤية للكيفية التي ترى بها الأم ابنتها وفي أي إطار تضعها، مثل نظرة أغلب الأمهات، فهي تتابع ابنتها بكل تفاصيلها وتحتويها داخل مساحة محددة لا تود لها الخروج منها، بينما عندما تبدأ سارة في تصوير أمها، فإنها تصورها في لقطة أفقية قريبة، فتركز على شعورها الآن وتنقل لنا إياه، وهو ما يهمها في هذه اللحظة.
ولا يجب أن نغفل هنا دور بريهان مراد مونتيرة الفيلم التي جعلت الانتقال يبدو سلسلًا في كل مرة، بل وجميلًا عند الربط بين مشاهد أفلام شاهين والفيديوهات القديمة له هو وشقيقته إيريس، والدة ماريان. وإن كان هذا الانتقال فقد تأثيره لاحقًا عند تكرار مشاهد الأفلام أكثر من مرة.
ربما منح الوقت الطويل جدًا الذي أخذته المخرجة لتنفيذ الفيلم (9 سنوات منذ فيلمها السابق) فرصة لإعداد السيناريو جيدًا، سريعًا نتابع قصة أم ماريان خوري وكأننا نتابع شخصية داخل فيلم روائي، نتعرف على تفاصيل حياتها من وجهة نظر الآخرين، سواءً من خلال ذكرياتهم عنها أو سرد تأثيرها عليهم.
يضيف إلى رغبة المشاهد في متابعة "احكيلي" معرفته بالكثير من الشخصيات التي تظهر على الشاشة، مثل ماريان خوري نفسها وشقيقها المنتج جابي خوري، وبالتأكيد يوسف شاهين، الذي يظهر هنا بشكل مختلف، إذ ليس هو المخرج الذي يتحدث عن أفلامه، بل هو يوسف شاهين السكندري الذي يتحدث عن شقيقته وذكرياته معها، وبالتأكيد مشاهدة شاهين يتحدث في جلسات عائلية أو حتى أمام كاميرا ماريان خوري هو أمر شديد الجاذبية، ومرة أخرى يجب أن نتوقف عند التوظيف الجيد لمشاهده داخل الفيلم.
ماريان أم إيريس أم سارة؟
يقدم لنا الفيلم شخصية الأم إيريس التي تعد سينمائية بامتياز، فالجميع يذكر عنها ذكائها الشديد، وشخصيتها القوية، لكنها في الوقت نفسه لم تكمل تعليمها وتزوجت رجلًا يكبرها بحوالي 15 عامًا، وعلاقتها بأبنائها هي علاقة غير محددة المعالم، فولديها الكبيران يذكران أنها كانت تضربهما كثيرًا، بينما الابنة -ماريان- تقول إنها لم تضربها إلا مرة واحدة فقط، وكل هذه التفاصيل المتناقضة تساهم في جعل شخصية الأم متعددة الأبعاد، بل إننا عندما يتوقف الكلام عنها ويتحول الفيلم إلى متابعة ماريان نفسها وابنتها نشعر أننا فقدنا جزءًا كبيرًا من جاذبية الفيلم، وهو ما سنتعرض له في السطور القادمة.
يأخذ الفيلم جل وقته في تقديم شخصية إيريس والإحاطة بتفاصيلها المختلفة، حتى نصل إلى الثلث الأخير منه تقريبًا، ليتحول إلى متابعة ماريان وسارة. منذ البداية تخبر ماريان ابنتها أنها ستقدم فيلمًا عن أمها (إيريس) لكننا نشعر طوال الوقت أنها تود صناعة فيلمٍ عن نفسها وعن علاقتها بابنتها، وإن كان هذا لم يظهر على السطح بشكل قوي، ولهذا كان انتقال المخرجة للحديث عن نفسها وعلاقتها بزوجها الأول ثم الثاني مفاجئًا ومربكًا إذ شعرنا أن بطلة الفيلم التي ظللنا نتابعها قرابة الساعة اختفت وظهرت البطلة الثانية في مكانها، وكان الانتقال الأكثر حدة هو الخاص بسارة التي تحدثت قبل النهاية بدقائق في لقطة طويلة عن تأثير أسرتها وعائلتها متشعبة الأصول عليها، وتأثير تربيتها في كنف بيت ثري عليها وعلى علاقتها بأمها، لحظة المكاشفة هذه تحديدًا جاءت دون تمهيد كافٍ، إذ كانت سارة تتحدث طوال الوقت عما يخص أمها، حتى وإن كانت هناك ملامح ضيق واضحة على بادية عليها طيلة الوقت فإن هذا لم يكن كافيًا لتوضيح كل ما يعتمل في نفسيتها، لهذا فإن لحظة الانفجار الأخيرة، مع ما حملته من كشف لكل ما يعتمل في نفس الحفيدة، كانت تحتاج إلى المزيد من التمهيد.
بنظرة أشمل نرى أن الشخصية المحورية في الفيلم، ماريان خوري، كانت تحاول أن تنقب في ماضيها وتزيل الستار عن كواليس علاقة أمها بها حتى تعيد تعريف علاقتها بابنتها، لكننا، وبعد الكثير من البحث داخل شخصية الأم إيريس لا نصل إلى شكل واضح لطبيعة العلاقة بينها وماريان، لا توجد أزمة أو نقطة مضيئة بعينها ترتكز عليها العلاقة بشكل رئيسي، هي ملامح مختلفة من الحب والخلاف مثل الموجودة في الكثير من البيوت، ولهذا فربما كانت فضفضة الحفيدة سارة، على قصرها وحدتها، أكثر وضوحًا في تعريف شكل العلاقة بينها وأمها مما أورده الفيلم من علاقة ماريان بأمها.
ذاتي أم عام؟
رغم أن الفيلم يركز بشكل رئيسي على النساء الثلاثة، ماريان وأمها وابنتها، فإننا نجده يقدم أيضًا نظرة عامة على بعض أوضاع مصر في الماضي، إذ نشاهد عائلة سكندرية ذات أصول من عدة دول تتحدث داخل البيت بالفرنسية بطلاقة، ومر عليها التأميم ليغير من شكلها تمامًا. هذا التأريخ العابر في هدوء على ألسنة الشخصيات، إنما يحول الفيلم من الذاتي إلى العام، وإن كانت هذه التفاصيل العامة لم تظهر كثيرًا خلال الفيلم، ليبقى الذاتي هو الأبرز.
مثلما فعل يوسف شاهين في أفلامه الذاتية، إذ قدم الكثير من تفاصيله الشخصية وانتقد نفسه معريًا أخطائه دون خجل، فعلت ماريان خوري في فيلمها كاشفة الكثير من تفاصيل حياتها، بما في ذلك فشل زاوجها الأول وعلاقة ابنتها بها التي يسودها الكثير من الاضطراب، مستخدمة في ذلك أشهر الطرق وأكثرها سهولة للتخلص من الأحمال وهي الفضفضة أو الحكي.
"احكيلي" هو بلا شك أحد أهم وأفضل الأفلام المصرية في عام 2019، ويقدم للمشاهد حكاية ممتعة، وخاصة للمشاهد الذي يعرف هذه الشخصيات ويود أن يسمع منها وعنها المزيد، ولكنه كان يحتاج إلى تسليط الضوء بشكل أكبر على بعض النقاط المحورية فيه حتى تكتمل الحدوتة بشكل أفضل.
اقرأ أيضا:
فيلم The Irishman.. سكورسيزي يقدم التحية لنفسه
"حديث عن الأشجار".. فيلم على طريقة سكورسيزي